عزلة إسرائيل وانقساماتها الداخلية- تداعيات طوفان الأقصى

أسفرت معركة طوفان الأقصى عن كشف النقاب عن الوجه القبيح للاحتلال الإسرائيلي، مبينة صورته ككيان متوحش يرتكب الفظائع، يسفك دماء النساء والأطفال والإعلاميين بدم بارد، ويتبع سياسة التهجير القسري والحصار الخانق كسلاح فتاك، ويستهدف دور العبادة والمستشفيات ومراكز الإيواء دون رادع. وقد أدى هذا السلوك المشين إلى تقويض صورة إسرائيل كدولة ديمقراطية ليبرالية، لتبرز عوضًا عنها صورتها كدولة مارقة منبوذة على الصعيد العالمي، وحتى في أوساط شريحة واسعة من مواطنيها الذين يعانون من انقسامات حادة وغير مسبوقة. وتجدر الإشارة إلى أن ما يقارب 60% من الإسرائيليين يشعرون الآن بأن دولتهم فقدت الكثير من احترامها على الساحة الدولية.
العزلة المتصاعدة
عندما أقدم وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، على إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، شخصًا غير مرغوب فيه في إسرائيل، متهمًا إياه بدعم المنظمات الإرهابية، تجسد بذلك استعداء دولة الاحتلال لأرفع مسؤول في أكبر منظمة دولية. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل أصبحت إسرائيل دولة ملطخة بالعار أمام المحكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، والعديد من الهيئات الدولية الأخرى.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsفاطمة تحارب الجوع في غزة لتنقذ جنينها
أم غزية تجد ابنها بين الجثث المجهولة وتحمد الله أنه كامل
وفي سياق متصل، تداولت وسائل الإعلام مؤخرًا رسالة من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، انتقد فيها بشدة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، واصفًا موقفه بـ"المشين"، بعد أن دعا ماكرون إلى وقف إرسال الأسلحة إلى إسرائيل بهدف المساعدة في تهدئة الصراع. وأضاف نتنياهو بصلف وغطرسة "إسرائيل قادرة على تحقيق النصر سواء بمساندتكم أو بدونها". وقبل ذلك بأيام قلائل، شهدت قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة مشهدًا لافتًا، حيث غادرت وفود العديد من الدول القاعة التي بدت شبه خاوية أثناء إلقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي كلمته.
إن حالة العزلة الخانقة التي تعيشها دولة الاحتلال دفعت العديد من الإسرائيليين إلى التفكير مليًا في هذا الواقع المرير، والتساؤل عما إذا كان مجرد وضع مؤقت يمكن تجاوزه بمجرد انتهاء الحرب، أم أنه تحول إلى اتجاه أعمق وأكثر رسوخًا، يصعب علاجه أو التغلب عليه؟
وفي هذا الإطار، تشير دراسة للباحثة بنينا شارفيت باروخ، وهي عقيد احتياط خدمت في قسم القانون الدولي بالوحدة العسكرية للمدعي العام لمدة عقدين، كما أنها كانت مسؤولة عن تقديم المشورة لقادة جيش الاحتلال وصناع القرار على مستوى الحكومة، إلى أنه مع تفاقم اتجاهات عزلة دولة الاحتلال الإسرائيلي على جميع الأصعدة، فإن إمكانية استعادة مكانتها السابقة تبدو ضربًا من الخيال.
إن تدهور النظرة الدولية إلى دولة الاحتلال أصبح حقيقة لا يمكن إنكارها، وبات العديد من الإسرائيليين محبطين ويائسين من إمكانية تغيير هذه الصورة القاتمة، في ظل تصاعد حملات المقاطعة للشركات الإسرائيلية، وسحب الاستثمارات من الكيان، وتجنب دعوة الإسرائيليين للمشاركة في الفعاليات الثقافية والأكاديمية والرياضية، حتى أن هذا الأمر طال القطاع الطبي. بالإضافة إلى ذلك، تشهد العديد من دول العالم احتجاجات واسعة النطاق، وتعتبر إسرائيل رمزًا للشر المطلق لدى شريحة كبيرة من الشباب.
قد يعتقد البعض أن هذه العزلة لم تتحول بعد إلى إجراءات عملية ملموسة تضغط على الاحتلال وتدفعه إلى التوقف عن سلوكه العدواني، إلا أن الحقيقة هي أن تحول إسرائيل إلى وصمة عار على المستوى العالمي ليس أمرًا يسيرًا، بل إنه يضفي شرعية على أي إجراءات يمكن اتخاذها ضدها. ومع استمرار دولة الاحتلال في غيها، فإن هذه العزلة مرشحة للتفاقم بوتيرة أسرع.
إن قضية عزلة إسرائيل تثير جدلاً واسعًا داخل المجتمع الإسرائيلي، وهذا يؤكد عمق الانقسام. فهناك نظرة أولى تستشعر خطر العزلة وتدهور صورة الكيان وتحوله إلى عبء ثقيل حتى على دول المعسكر الغربي، مما يقوض مساعي التطبيع مع الدول الإقليمية التي كانت تعتبرها بوابة للغرب. أما النظرة الثانية فهي متعالية وتتجاهل الواقع المرير وتستمر في التمادي في الغطرسة. ومع ذلك، فإن أصحاب النظرة الأولى يشعرون باليأس من إمكانية حدوث تغيير إيجابي، على الرغم من توصياتهم بإجراء سلسلة من الإصلاحات، بما في ذلك تغيير سلوك أصحاب النظرة الثانية الذين يساهمون في ترسيخ العزلة.
الانقسامات الداخلية
ممّا لا ريب فيه أن الانقسامات الداخلية كانت متأصلة في دولة الاحتلال الإسرائيلي قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكنها تفاقمت بشكل ملحوظ بعد ذلك الحدث. وعلى الرغم من كل المحاولات التي بذلها نتنياهو للتظاهر بأن إسرائيل موحدة، إلا أن هذه المظاهر كانت زائفة ومؤقتة، ولم تنجح في إخفاء حقيقة الانقسامات العميقة، بل إن شعوره بالحاجة إلى التأكيد على أنه "لن تكون هناك حرب أهلية في إسرائيل" قبل عدة أشهر، لم يكن سوى دليل قاطع على حجم المخاوف من هذا السيناريو الكارثي.
في الواقع، تجاوز الأمر مجرد وجود انقسامات متزايدة، فقد بدأت دراسات علمية عربية وأجنبية، بالإضافة إلى تحليلات من داخل المجتمع الصهيوني نفسه، تتحدث عن احتمالية تطور هذه الانقسامات إلى صراعات داخلية.
وفي هذا السياق، تشير دراسة لوليد عبد الحي بعنوان "البجعة السوداء في المستقبل الإسرائيلي"، والصادرة عن مركز الزيتونة للدراسات في سبتمبر/أيلول 2024، إلى أن احتمال نشوب حرب أهلية في إسرائيل يبلغ حوالي 40.3%، وهي نسبة مرشحة للارتفاع في حال تضافُر عاملين رئيسيين، أولهما قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود في غزة، وثانيهما اتساع نطاق تأثيرات الخطر الخارجي، مما يؤدي إلى تفاقم الاستقطاب السياسي في دولة الاحتلال. وفي الوقت الراهن، يتضح جليًا أن هذين العاملين حاضرين بقوة، فالمقاومة صامدة، وتأثيرات الخطر الخارجي تتسع، مما ينذر بزيادة هذه النسبة المخيفة.
بات كتّاب إسرائيليون - مثل ديفيد أوهانا في مقاله في صحيفة "هآرتس" - يعربون عن مخاوف متزايدة من تحول هذه الانقسامات إلى صراع داخلي، وربما إلى حرب أهلية بين الإسرائيليين. ويتم تفسير ذلك بأن الهوية المشتركة بين الإسرائيليين قد تعرضت لصدع كبير خلال عام واحد فقط من عملية طوفان الأقصى.
بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود أولمرت، صرح بوضوح قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول قائلاً: "إن الحرب الأهلية في إسرائيل قادمة، وتذكروا كلامي هذا". وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، أضاف أولمرت: "ليس ببعيد اليوم الذي تستخدم فيه الميليشيات اليهودية الأسلحة التي حصلت عليها للقضاء علينا نحن اليساريين". كما دعا رئيس حزب العمل وقائد المنطقة الشمالية السابق، يائير غولان، إلى تنفيذ عصيان مدني واسع النطاق، وحث أنصاره على رفض الانضمام إلى خدمة الاحتياط في الجيش.
أصبحت الاحتجاجات مشهدًا مألوفًا في تل أبيب، سواء قبل عملية طوفان الأقصى بسبب الخلافات حول التعديلات القضائية المقترحة، أو بشكل أكثر كثافة بسبب الاعتراض على سياسات حكومة نتنياهو والمطالبة بإبرام اتفاق لتبادل الأسرى بعد استيفاء جميع الشروط اللازمة.
بلغت هذه الاحتجاجات ذروتها بعد مقتل ستة أسرى إسرائيليين نتيجة للعمليات العسكرية التي شنها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، والتي اعتمدت على القوة المفرطة في محاولة استعادة الأسرى. وقد شارك في هذه الاحتجاجات ما يقارب 770 ألف متظاهر، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ دولة الاحتلال. وتزامن هذا الاحتجاج مع إضراب عام لمدة يوم واحد نظمته أكبر نقابة عمالية في دولة الاحتلال، مما يشير إلى أن هذه الاحتجاجات ستتجدد وستتصاعد في ظل الظروف الداخلية الراهنة.
تعتبر الاحتجاجات الحاشدة أحد أوجه الانقسام العميق في المجتمع الصهيوني. ويرى بعض المفكرين والسياسيين السابقين أنه ما لم تتطور هذه الاحتجاجات إلى تمرد أو عصيان مدني شامل، فإن قدرة الطرف الآخر الذي يقود الائتلاف الحكومي على تجاوزها ستظل قائمة.
يشير هذا الطرح إلى أن الوضع الحالي للاحتجاجات قد يكون مجرد مرحلة أولية قابلة للتطور من احتجاج سلمي إلى عصيان مدني، ومن ثم إلى أعمال عنف ضد الحكومة، خاصة وأن جميع الحروب الأهلية التي شهدتها دول أخرى قد سبقتها مظاهر مماثلة.
اليوم، تدخل دولة الاحتلال الإسرائيلي مرحلة جديدة من التصعيد من خلال العدوان على لبنان، الأمر الذي قد يؤدي إلى إعلان حالة الطوارئ العامة وتأجيل الانتخابات المقررة لعام 2026. هذه القرارات من شأنها أن تشعل فتيل الاحتجاجات العنيفة. ويشار هنا إلى عمليات تسييس الشرطة وإلى عمليات تسليح المستوطنين في الضفة الغربية التي يقودها بن غفير، وهو ما يمهد الطريق لتشكيل ميليشيات طائفية خاصة قد تقوم بأعمال تهدف إلى زعزعة الاستقرار.
إن معادلة استقرار دولة الاحتلال الإسرائيلي، شأنها شأن أي كيان آخر، مرتبطة بعوامل داخلية وخارجية. وتتفاقم العزلة الخارجية والانقسامات الداخلية نتيجة لسلوك دولة الاحتلال منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومما يزيد الطين بلة هو وجود المزيد من التشظي والتفكك والتدهور في هذه العوامل، بالإضافة إلى الضغوط الخارجية المتزايدة من خصوم دولة الاحتلال، الأمر الذي سيزيد من حدة هذا المسار، ويضعف دولة الاحتلال ويعرض استقرارها الهش للخطر.
وإذا أضفنا إلى ذلك العوامل المتعلقة بكونها دولة احتلال اغتصبت حقوق شعب وأرضه ومقدساته، فإن اهتزاز الثقة وهاجس البقاء، المرتبط بالتشوهات في التصورات والتخبط في القرارات، هي عوامل تسهم في تسريع وتيرة تدهور استقرار دولة الاحتلال الإسرائيلي بشكل يفوق التوقعات.